Main topics

يوليو 14، 2012

" قاسٍ في ثوب قاضٍ "

                          أمومتي هي  هويني/ عدسة shirley 

عقارب الساعة، تشرف أن تكمل دورتهاعند السادسة صباحاً، صالة الإنتظار مكتظة بالمسافرين، الزائرين  والعاملين فيها من كل الأجناس والأطياف، وامرأة شابة ، جميلة الملامح ، مرهقة البدن، محاطة بأبنائها الثلاثة تنتظر بإصرار في صالة الإنتظار، ترتقب الموعد على أحر من الجمر .
عيون قريبة وغريبة ، تسترق النظر اليها ، منحت نفسها الحق أن تعاكسها، تشاكسها، وأن تراقبها بشراهة وجراءة تكاد أن تكون مهينة، وأفواه نتنة ، متهكمة تتمتم عليها هنا وهناك، تتهمها بما يشبع رغباتهم وأفكارهم الشخصية، وموروثاتهم الثقافية الفانية، وآذان غير مبالية ، وصاغية لهذه الأفواه المريضة السامة .


 أحدهم تقدم بخطوات ثابتة ، موزونة نحو المرأة ، ضارباً بعرض الحائط كل ما يدور حولها، يجالسها وباهتمام واضح، يسألها عن سبب إرهاقها، ناظرته بتمعن، وبنبرة المظلوم سألته :" ماذا لو جلدك بموطنك جلاد بلا هوية ؟ ".
  وبثقة عمياء أجابها :"مهما ظلمنا فالبقاء لمن يمتلك الهوية "، بحرقة تنهدت وقالت :" الهوية هي المواطنة التى لن تتحق الا بالمحبة ، ونحن لم نتعلم كيف نحب . قلبي وعقلي وجسدي هم هويتي التى أمتلكها في موطني ولا أستطيع أن أتمتع بها لأنني دائما متهمة !" ، بلهفة سألها :"بماذا أنت متهمة ؟ولماذا؟".

 أجابته بإستفاضة : "تخيل انك سُجنت في سجن بلا قضبان، يوم تحررت من سجن بقضبان، وتخيل أن حالتك أصبحت مثل هذه الساعة في صالة الإنتظار، رغم دقتها وانتظامها الكل يراقبها باتهام بلا رحمة ولا حسبان ، وتخيل أنك تعمل ليلاً مع نهار لترتقي بحياتك من الصفر الى العلاء وأن تحرق ريحان شبابك ، وزهوة عمرك ،وأن تحرم نفسك من متع الدنيا، وأن تحبس عواطفك دون الحياة حتى تكاد تقترب للفناء دون كلل أوامتنان .

"كان ذلك عطائي لواجبى المشروع  نحو فلذة كبدى، أبنائي الصغار، فأمومتى  وجودى وحريتى ".


 تخيل نفسك تقاتل أخطبوط أسود كسواد الليل ، أينما توجهت تباغتك أذرعه الخانقة بإفتراس، تقيد حريتك حتى تكاد أن تختنق ، تفقدك حقك في العيش والحياة ، بكرامة آمنه ، أذرع كالسياط تجلدك بتفنن في كل مكان تنبع من جلاد بهوية وبلاهوية ، لا يمتلك عقل يفكر ولا  قلب يشعر،  سوى متانة أذرعه المطاطية الفذة ، تقاومها ياستدامة منهكة ، حفاظاً على هويتك ، لتجد موطنك الذي يحميك قد تحول الى ذلك الأخطبوط  القاهر المتمرد .

 " كان ذلك نضالي المستميت المشروع ضد عادات وتقاليد مميته بالية غير مشروعه، توارثتها أجيال هالكة تتهمنى وتسلبنى وجودى وحريتى ".


  تخيل أن هناك يجلس أحد اللذين يستهون إرتداء أثواب تفوق قياساتهم ، رغبة في زيادة أوزانهم الواهنة الهشة ، أو لملأ  بطونهم ، في مدة زمنية مختصرة ، وربما لإستعاضة ما فاتهم من ملذات إشباع الأنا الأعلى الانانية بلا إنسانية .
وتخيل أنك أحد اللذين يقفون هناك أمام ذلك المستهوى ، ترتدي ثوباً يعكس ملامحك الإنسانية ، ينبثق من ثناياه عقلانيتك المنطقية ،  تفوح منه رائحة المواطنة المخضرمة الأصلية ، وألوانه تعبر عن وجدانيتك المعطاءة الثرية .
 وتخيل أن هناك تصدر قرارت ركيكة ، مصبوغة بتجاهل ذلك المستهوى ، لقياسات المقعد الذي يتمجلس عليه متأرجحاً يميناً وشمالاً ، الي أن يفقد توازن ميزان العدل لديه ، فتفقد معه العدل في حقك الذي تطوق إليه كطوق النجاة من الغرق .
 وتخيل أن تلك القوانين المهلهلة والقرارات الركيكة ، ما زالت تصدر عن ذلك المستهوى ، الذى ظننته انه ملاذك الوحيد من سيحميك من دهاليز الحرمان ، المفروض عليك من ذلك العنكبوت القاهر المعلول ، أن يخرجك من الظلمة الى النور ، أن يرفع عنك سياط الجلاد المعلوم المجهول ، أن يكون مظلتك التى تحتمى بها من حرقة الظلم ، أن يدعم إحساسك بالمسؤولية تجاه  من أحبوك دائماً وأبداً ، لتصطدم بأنه وهماً كبيرٌ لم يشبع بعد بل ويحتمى بتلك العمامة المشروعة ، والثوب الواسع الغير مشروع الذي يرتديهما ، ولا يمتلك سوى جشعه النازع منك دفئ موطنك الذى كنت تمتلكه لأجل من أنت لهم وجوداً وحريةً.

 كان ذلك لقائي المحتوم مع قاسٍ في ثوب قاضٍ ،  إتهمنى وجردنى من أمومتى ، وجودي وحريتي .


 لأنني امرأة أتهمت بوجودى وحريتى ، لذا أتلهف شوقاً ، أن أهاجر بوجودي وحريتى ، الي من يقدرها ويمنحها لي بحبٍ وعطاءٍ دون أن يسلبني موطني و هويتي الإنسانية .
أجابها من جالسها بجرأة ولهفة قائلاً :"تخيلي أن ما حدث لك قد حدث لي ، فأنني رغم رجولتي ، سأفعل ما تفعلينه الآن ، وأتمنى أن اصبح رفيق دربك حتى الفناء فهويتي وموطني هما نفسيهما هويتك وموطنك العدل والمحبة ".





     

هناك تعليقان (2):

  1. وفاء كتابة رائعة جدا، اسلوب مميز، كلمات جذابة، شوقتيني أعرف ما وراء القصة...
    ايضا أمومة المرأة وحضانتها لابناءها قضية في غاية الاهمية للحديث عنها بعمق.. خصوصا أن المجتمع يتعامل مع هذه العلاقة شديدة الالتحام بين الام وابناءها بقسوة،وتجرد. ناهيك عن قسوة القوانين والعادات المجتمعية بهذا الصدد

    ردحذف
  2. كلماتى رائعة ومميزه لانها نابعه من تجربه حقيقية وتصف واقع متفشي في غزة نعيشه للأسف بكل حذافيره وربما اسلوبى في الكتابه قد خفف من وقع هذه الأحداث التى دائما وابدا ظالمة للأم والمرأة بشكل عام

    ردحذف