|
تملكتنى سيجارتى حتى هرم عمري ولم يشعر بعد مسؤولي/ صورة تعبيرية
|
في ليلة دامسة سوداء، خرج أحمد من منزله مهموم النفس شارد الذهن، ملتاع القلب ، متجولاً في شوارع بلدته ، هارباً من وجعات طموحه الموقوف ، وعلمه المهدور ، حائراً بوقته الوفير كيف يقضيه بتقدير ، يترجل وهو يتمتم متسائلاً في ذاته " الى أين أذهب لأفرغ ما بداخلي من طموح ونشاط ؟ كيف أثبت أنني قادر على تقديم ما يفيدني ويفيد مجتمعي ووطني ؟" ، أخذت التساؤلات تتدافع بذهنه واحدة تلو الأخرى ، الى أن استفاق منها على صوت شباب يتسامرون على ضوء القمر بصوت مرتفع ، يقضون ساعات طويلة فى مقهى للإنترنيت كمتنفس وحيد لهم ، تأمل أحمد المكان وود دخوله ، إلا أنه تراجع متسائلا" ماذا سأستفيد هناك غير القيل والقال ؟" طموحي أكبر من ذلك "أنا أرغب في تطبيق ما لدي من أفكار تكنولوجية وعلمية قادر على تطبيقها لو توفرت لدي الإمكانيات لكي أخدم بها وطني!" .
أكمل أحمد سيره لعله يجد ما يسره ويخرجه مما عليه حاله ، فإذ بصديقه نادر يقف على شرفة منزله ، تبادلا التحية ، ومن ثم طرح أحمد سؤاله المعهود " لماذا انت عابس ، شارد الذهن ؟" ، بنبرة تشوبها الحسرة، أجابه بتهكم " أفكر بوسيلة استطيع بها بيع إختراعي الذي أطلعتك عليه ذات مرة " ، ناظره أحمد بهشة وسأله :" هل ستبيع جهدك وعلمك ، وتقتل طموحك بيدك؟" ، بألم يجيبه نادر " يا صديقي ، هل هناك حل آخر ، أنت تعلم الحال، أسرتي من الأسر المستورة ، تحتاج لمن يعولها ، كما أنني لم أجد جهة ببلدي تهتم بما لدي من اختراع ، ولا حتى علم ، وإذا لم أبحث عن البديل ، سأخسر أسرتي وعلمي ، وأعتقد ان هذا أنسب الحلول الى أن نجد من يهتم بما لدينا يا عزيزي المبدع " .
هز أحمد رأسه وسار في دربه ، متأملا العثور على من يوقظه من صدمة صديقه نادر، فإذا بصديق آخر يتخذ من زاوية الشارع مجلسا له ولسيجارته ، يرتشفها بكبرياء وغرور وكأنه يمتك العالم بأسره ، توقف عنده أحمد قائلا :" مساء الخير أبو الشباب " وبعد رد التحية ، داعبه أحمد قائلا :" شو ، شايفك منسجم مع السيجارة ولا أبو الهول ، فما سر هذا الإنسجام ؟" أجابه صديقه بثقة :" تصدق ، يا أحمد ، أن هذه السيجارة رغم أضرارها وفية أكثر من مسؤولي الدولة ، وأصدق من كل الذين تزورهم يوميا من غير فائدة ، ولا رأس مال ، يا رجل أجبني، كم مؤسسة زرت ؟ وكم مسؤول قابلت ؟" أجابه أحمد :" ما تعدش كثير ، لا يعد ولا يحصى ، ما تركت باب الا وطرقته ، لكن للأسف يبدو درجة الإمتياز الأكاديمي التي حصلت عليها لم تنل إعجاب أحدهم " . ابتسم ابو الشباب متهكماً وقال :" قلت لك السيجارة أحسن منهم ، إذن يا صاحبي لا تسألني عن سبب انسجامي بها ، فالحال من بعضه ، فخذ الحكمة من أخوك أبو الشباب ، فكك منهم ، وتعال خذلك نفس سيجارة معي" ، تردد أحمد الى أن قطع أبو الشباب تردده قائلاً " توجه لناصية الشارع ، ستجد أخونا " خير وفير" من مؤسسة " من أجلك أيها الشاب " ، حاشداً مجموعة من الشباب، يخطب فيهم ، شاركهم ، يمكن تحصل على شيء يهمك ويحقق حلمك " .
امتلأ قلب أحمد اليائس ، بالأمل ، ودبت فيه روح الحياة ، وانطلق مسرعاً صوب الناصية ، لعله يجد ما يفش غليله ، مُنظماً لصفوف الشباب ، استمع باهتمام ل " خير وفير " ، وأخد أحمد يسهب في مداخلاته بالحديث عن طموحاته ، وأفكاره العلمية التي قد تعمل على تطوير مجتمعه ، ووطنه ، مؤكدا على أن تطبيقها تعمل على خلق فرص عمل للشباب ، ورفع مستوى المعيشه لهم ، فما كان من الأستاذ "خير وفير " ، إلا أن يعطيه موعد في يوم غداً ، لتقديم طلب ضمن مشروع تشغيلي للشباب كما ترى المؤسسة .
طار أحمد فرحاً ، جاعلاً من ذلك نقطة البداية للمجد ، وعاد أدراجه ، بخطوات متسارعة الى منزله ، مبشراً والدته التي قابلها وقال لها بعفوية :" من هون وطالع ما في وقت ضائع ، ما في قلق ، ولا حتى تفكير غير فى الشغل" ، وبعد لحظة صمت ، ناظر والدته وسألها " ماذا تريدين أن أحضر لك عند تقاضي مرتبي الأول ؟ ، اطلبي وتمنى ، شبيك لبيك أحمد بين أديك ". لم ترق لوالدته الفرحة التي تغمر أحمد ، فهي لم تعتد رؤيته على هذا الحال منذ وقت طويل، بنبرة حائرة سألته :"هل نجحت في مقابلة الوظيفة الجامعية التي قدمتها الأسبوع الماضي ؟" .أجابها بإبتسامه قائلاً:" يا امي الأسبوع الماضي قد مضى ، انا أتحدث عن ما حدث معي الليلة " ، وقص على والدته ما حدث معه منذ لقاءه بشباب المقهى الى ان التقى ب" خير وفير " .
تنهدت الأم مشفقة على ولدها فقالت له :" هون عليك يا ولدي هذه ليست الأولى ولا الأخيرة ، فقد أجريت العديد من اللقاءات ولم تتوفق حتى الآن بإحداهن ، وربما هذه مثلهن ، لا أريدك أن تحبط ، ولا أريدك أن تضع كل آمالك ومن حقي أن أخاف عليك ، فقد ربيتك بدموع عيني ".
اومأ أحمد وقال :" لماذا لن يقبلوني ؟ هذه مؤسسة خاصة بتطوير الشباب ، ومن المؤكد أني سأكون جزء منها " ، توجه أحمد لمضجعه وطلب من والدته أن توقظه مبكراً لتحضير نفسه للمقابلة .
استيقظ أحمد باكراً ، مليئا بالحيوية والنشاط ، مرتدياً أفضل ما لديه من ثياب، وحمل حقيبته التي تطوي شهاداته العلمية والخبراتية وحزمة أفكاره الإبداعية ، عسى أن يجد من يتبناه ، معتقداً أنه لن يجد أحداً في المؤسسة سواه ، فإذا بصالتها ممتلئة بالشباب ، كل يحمل في قلبه نبضة أمل ، وفي عقله زمرة علم ، وفي حقيبته ، شهاداته اللامتناهية ، جلس أحمد بين زملائه متبادلاً التحية والنظرات والغمزات منتظراً دوره .
العدد بدأ يتقلّص ، الوقت أشرف على الإنتهاء ، وجاءت لحظة اللقاء ، لملم أحمد نفسه واستعد للمقابلة بشغف وثقة عمياء ، دخل وبعد أن جلس على كرسي الإعتراف ، هم بإفراغ شهادته من الحقيبة التي لا طالما إعتبرها زاده وداءه ، قاطعه المشرف على المقابلة بنظرة مليئة بالعنفوان قائلا :" ماذا تفعل؟ أعد هذه الأوراق الى حقيبتك فهي غير مهمة ، ولن تؤدي الغرض، إتركها تكمل إغفاءتها في الحقيبة "، دهش أحمد متسائلاً :" إذا كانت هذه الأوراق غير مهمة ، فما هو المهم في رأيك ؟" ، نظر اليه المشرف بمكر وقال :" لا تجادل كثيراً ، فنحن لم نبدأ بعد لكي نتفلسف "، تنهد أحمد حسرةً وانتظر السؤال بفارغ الصبر .
المشرف :" ما اسمك ؟" ، أحمد :" أحمد صابر عبد الصبور " ، المشرف :" الله يصبرك ويصبرني ، الي أي تنظيم تنتمي تحت لواءه وولاءه ؟" أحمد : " لا أنتمي لأي تنظيم ، ولائي لله ثم للوطن ، فأنا فلسطيني ابن فلسطين "، المشرف باستهزاء :" عظيم ! وما هو طموحك ؟" يجيبه أحمد :" أطمح الى أن تصبح أفكاري العلمية حقيقة على أرض الواقع و أخدم بها وطني وشعبي ، وانجح في حياتي العلمية والشخصية ، وأن أكون عنصراً إيجابياً بالمجتمع ، لكي أشعر بتحقيق الذات "، المشرف أيضاً بسخرية يقاطع أحمد ويقول :" كل هذا؟ طيب وحدة وحدة " ، ومن ثم شكر أحمد وطلب منه أن يرصد النتيجة عبر الصحف بعد يومين ".
خرج أحمد مقبوض القلب ، مكسور الخاطر ، يائساً بائساً ، من لقاء بارد أجوف ، لا يحمل في طياته أي فحوة علمية ، ولا حتى إنسانية ، وترجل ماشياً ، سارح الذهن كعادته، وإذ بصوت خافت ينده باسمه ، توجه بنظره نحو مصدر الصوت متفاجئاً بأعز أصدقائه وائل الذي لم يره منذ سبع سنوات، وهي سنوات قضاها صاحبه خارج الدولة من أجل العلم والعمل ، عانقه أحمد بشدة وبدأت عيناه ترغرغ بالدموع ، وهو يقول: "أطلت الغيبة يا صديقي!" يجيبه وائل:" لا تقل إنك تريد البكاء من شدة شوقك للقائي ، فلابد هناك الكثير مما تريد أن تخبرني به يا صديق الطفولة فأنا أعرفك جيداً " .
اصطحبه وائل الى منزله ليخبره ما يجري معه ، فأطلعه أحمد عما يحدث في دولته من تشتيت للأفكار ، وتشريد للشباب ، وتحطيم للأحلام، وتهميش للأقلام ، وقتل للإبداع ، ونصرة للأحزاب ، وغلبة لشعار إدفع وأربح ، ضاق وائل ذرعاً بما سمع ، وطلب من أحمد أن يحضر له ملفه بالكامل وأفكاره العلمية لكي يرسلها للدولة التي يعمل لديها ، مؤكدا لأحمد أنه سيتم قبوله هناك ، وسيحقق بذلك كل طموحه ، لأن دول الغرب تهتم بمثل هذه الكوادر وتفعلها بمجتمعاتها، بردة فعل صارمة قال أحمد :" لن أهجر علمي وفكري لغير دولتي " .
بثمن فطور أسرته ، اشترى أحمد الجريدة بعد يومين قضاهما على أحر من الجمر، وبدأ يقلّب نتائج المقابلة بلهفة الى أن وجدها محصورة في زاوية من خمسة أسماء تقع تحت لواء واحد ، وطبعا اسمه لم يكن ضمن الأسماء فهو لا يحمل نفس اللواء .
فلم يجد أحمد أمامه سبيلاً غير التوجه الى صديقه وائل قائلاً له :" صديقي ، كلهم يحملون نفس الشعار، "ادفع واربح" ، وأنا أحمل شعار علم وتعلم ، وأفيد وأستفيد ، تفضل هاك أوراقي أريد وبكل قناعة أن أخرجها خارج حدود دولتي رغم ألمي الشديد على أمثالي من الشرفاء ، وتأكد سأعود يوماً لوطني ، وأرسخ شعاري بقوة علمي ومالي ".
جهز أحمد حقائبه ، وودع أحبائه ، ورافق صديقه الى مطار العز والمجد ، الذي لا طالما حلم أن يصل لهما في وطنه ، نحو دولة استقبلته ، رحبت بأفكاره ، طموحه ، ما يحمل من شهادات ، وقدرت علمه وانسانيته .
فهل نحن في أوطاننا تحققت مواطنتنا ، أم لا زلنا نجهل ما هي الشروط التي تكفل لنا مواطنتنا داخل أوطاننا ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق