Main topics

أغسطس 10، 2011

وأنا البلادُ وقد اتت وتقمصتني *

في مخيم برج البراجنة - لبنان

رائحةُ فقرٍ تلف المكانَ والأفق، بقاع ملغومة بقهرِ من يحيون في اللاحياة، بيوت رصت فوق بعضها البعض بشكل عمودي حتى وصلت السماء،،  دروب تَلِدُ غربةً ، دروبٌ لا تؤدي الى اي طريق.
طرقٌ تحمل وطن! تحمل الوطن في ملامح السائرين ، في عيونهم وتفاصيل اوجاعهم. حكايا ، تبدو لناظرها للوهلة الأولى من نسج الخيال ،

 هناك حيث الشتات، تجسيد حي لمعنى الأسى الذي نحمله في مخيلاتنا ولا نُدرك انه قد يوجد حقاً في مكانٍ ما ..



مذ عدت من فلسطين اللاجئة هناك، الى فلسطين السليبة هنا وانا اعاني حرقةً في القلب شديدة ولبساً في الهوية.

في مقامٍ آخر، كان لبنان الحلم، لبنان الرقي، البهي الأخضر، ولبنان من وصلَ صوتهم عنان السماء ، لبنان فيروز ومارسيل والياس خوري.. لبنان ماجدة الرومي وجبران وسعيد عقل وادونيس، لبنان الصوت والشعر، مجدُ العرب، العز وشعورٌ حار بالذنب.. ولـِبيروت "شكل الروح في المرآة، وصفُ المرأةِ الأولى ورائحة الغمام" "بيروت غصتنا، بيروت خيمتنا، بيروت قلعتنا، بيروت.. بيروت"..   الخيالُ أجمل..


لم يكن لبنان يعني ارضَ شتاتٍ لفلسطينٍ لاجئة، لم يكن يعني حاجزا اكبر من حاجز قلنديا على مداخل مخيم عين الحلوة – عاصمة الشتات-، او متعصباً يقول بملء فمه " انا لا ارفع على سطح منزلي غير علم بلادي " " نحن حساسون من اعلام الدول الأخرى"، ويأتيه جوابي صافعاً " تقصد حساسون من علم فلسطين قبل اي علم آخر".
لم نكن في سيناريوهات جدليةٍ حياتية غير الحلقة الأضعف، الأقل حظا او لنقل اولاد البطة السودا.
 قد يعطي بعضهم مبررات مقنعة للبنان الذي لا زال يلملم جراحه اثر وجودنا، لكن كيف يصير الفلسطيني عدواً؟؟

يُحرم الفلسطيني اللاجئ من دراسة تخصصات عديدة في الجامعة، وان درسها في الخارج لا يعمل بها، فالطبيب يصبح ممرضا، والمحامي مدير مكتب، والمهندس يشحذ مهنةً "تليقُ" به ان تيسر!

أما عن الكهرباء والماء فشرحٌ يطول.

. الليل شديد الحلكة، ليل بدون كهرباء بسبب عملية التقنين، وحرٌ ينهشُ الجَسد
حُذّرنا – منذ دخولنا الى مخيم برج البراجنة- من الأسلاك الشائكة الممتدة فوق رؤوسنا مباشرة، وأثناء تواجدنا في المخيم أُخبرنا عن 4 اشخاص تُوفوا اثر تماس كهربائي.. سيرُكَ في الشارع موت.
 وقد يكون الحظ حالفني لمراتٍ قليلة، كأن نجوتُ من مصباح كهربائي كاد ينفجر في وجهي لأن قطرة ماء لامسته.. كل شيء في الشتات يُلَقِّمُك الموت على طبقٍ فاخر.
والماء! الماء يا سادة ماء البحر، مالح ولا يخضع لعملية فلترة، تماما كما الألم الصافي، يغسل به العيون والوجه والجسد..
أما ماء الطبخ والشرب، فثلاجات السوبرماركات تمتلئ به، سلعة ليست كغيرها رواجاً!

التفاصيل  الصغيرة تقتل، لا مرايا في البيت، لا طعمَ للخبز، ثقب في الحائط، وعيون أطفال.
،،

على الطرف الآخر من القصة، تجد بيروت صباحاً تناظر صورةً لباريس ثم تنظر في المرآة، وتهيئ نفسها لل"شوبنج". ترتدي فيما بعد ملابس البحر، لتجلس مستمتعة بضوء الشمس على الشاطئ، وفي المساء تزيّن نفسها ، تلبس فستان فرح وتستعد لحفلٍ يطول ، فالليل في بيروت "مش للنوم، أصل الليل للسَهر". 


وهناك .. لدى ابناء الوطن المغترب تأخذ شعاراتنا – التي لفرط ما نرددها نُسقِط معناها ان كنا قد أدركناه أصلا-  هناك تأخذ شعاراتنا "الرنانة" جِدها وحقيقة المعنى في وجهٍ شكلت تجاعيده سنين الاغتراب " كل الناس لهم وطن يسكنون به، الا نحن لنا وطن يسكننا"، ينطقها بثقة وايمان صادق. حقاً حقاً، للأشياء في قلبكَ طعمها ايها الجد. وأنكفئ على مقطعٍ يردد شرودي " الوطن البعيد نحنُ فداهُ" ولأول مرة أفكّر: كيف يكون الوطن بعيداً ، جسدا مستقلا آخر، لا يروه ولكنهم يفدوه؟ يفدوه من لا يسكنوه؟

أما نحن يا اصدقائي البعيدين المغتربين ، الأقرب لهُ منا ، نغالي في بؤسنا والرضوخ. هنـا يغيب الوطن الا من اغنياتٍ قديمة ، وحلم فتىً لا تزل فكرة الانتماء تُدهشه.

هنا اصدقائي بتنا محترفي مفاوضات / مساومة.. تليها تنازلات. هنا منهمكون في رسم الخارطة الجديدة – القابلة للتقلص في مناسبات أخرى- هُنا أصبحنا رفاقاً ودودين للـ شَفقَة الحنونة/ الصَدقة الكريمة ، نُوقعُ على الرشوة، ونحن نُدرِك الثمن .. وربما لا نأبه، ما دامت جيوبنا تمتلئ!
لسنا في معرض حديثٍ عنّا وعن "أصدقائنا الكُثر -الذين لا نلبث نطلب ودهم- وعن جغرافيتنا المتجددة،
 لكن.. ماذا أفعل في حرقةٍ تصيبني وغصة حين يقول لي ولمن معي، مغتربٌ يلتاعُ وطناً، ما ان نطأ تواضع بيته " أهلا وسهلا بريحة البلاد، محظوظ لأن التراب اللي في رجليكوا دخل داري"!
يا ايها المصابون بحمى الوطن، لو أنَ الله وهبَكم قلوباً قوية لهذه البلاد المُتعَبةُ المُتعِبة!
...



دهشة ، وخيبة املٍ اعترتني اثر برنامج ارزة وزيتونة غمرتني فضولاً لرؤية مخيمات لبنان والتعرّف الى أهلها، غضب حزين، وحزن غاضب، اولا: هل حقا هذه بيوت يحيون بها، وشوارع يقتاتون احلامهم في ازقتها؟ ثانيا: هل ذاكرة اهل الشتات تصبح ركيكة كما بيوتهم الايلة للسقوط؟ هل هذه ثقافتهم الوطنية؟ يجيبون على سؤال من أي قرية انت بعُسر، ويعددون ببطئ وتردد اسماء المدن الفلسطينية التي يعرفونها كمن يتلقى الاجابات في أُذنه؟!

  ماذا يستفيد البعض من هذه المسرحية التي تحفر في رؤوسنا شحيح ذاكرة اهلنا في الفلسطينات الأخرى
وتُصَورهُم لنا فقراءً قلباً وقالباً؟ اليس هناك طريقة أخرى لتقديم العون والمساعدة ؟!

كذب التلفاز، والمذيعُ، والصور.

فلسطين الشتات تنشئ طفلاً في عيونه فلسطين البعيدة تُعلنُ نفسها، وفي قلبه تَرسم خارطتها كاملةً، ولائه الكبير يولد في مهده،  يحفظ الأغاني الوطنية، يحفظ شعراً وطنيا، وهو عضوٌ في مركز اسمه احلام لاجئ، يشترك في كشافة المخيم ويُقبّل صورة عماد ابو شقرا على جدران المخيم.
يزرع الأب في طفله بذور انتماء – ليس كمثلهِا -، يُحَمّلهُ لعبة كلاشينكوف يوجهها نحونا فأمازحه "اوعك تقتلني" ويرد "لاء هاي بدي ارجع فيها ع البلاد". حقدٌ متكاثر يكبر معه ويحتد في قلبه يؤكد لتاريخٍ أصم بأن الحلم لا زال قائما.

وانه لا زال هناك، وفي خضم تنازلاتنا والمساومات، من يقدر على الحلم ويصدقه.

وتسألني فاطمة بعد ان تضمني ما ان تراني – لأني اسكن في فلسطين-  " كيف انتوا جايين من فلسطين وما بتعرفونا وعرفتوا دارنا واجيتوا عليها بدون ما تحكوا معنا؟ " وسؤال يليه " طب مش انتوا عبرتوا الحدود؟ كيف اليهود خلوكوا تمرقوا وما طخوكوا؟" ، " يعني اليهود ما اخدوا كل فلسطين؟" ،
"صفد حلوة؟"
واتلقى الأسئلة الحائرة تنخر في جفاف شفتي، لترتسم ذهولا يجمّد المكان ويسكن عجز الاجابات في عيون غربتها، واسأل نفسي هل كل هذا الحزن عيون طفلة؟

على جدران المخيم، ترى صورا للشهداء وقادة الزمن الغابر. ترى " لن أبقى لاجئ ، سأعود" " إنا لفلسطين ، وانا اليها لراجعون" ، اعلام فلسطين ترفرف اينما كان، كأنك تقرأ ملامح فلسطينك، تنسى انكَ في بلدٍ أخرى.
كأنما الوطن يحسن رسمَ امتدادٍ له في الغربة، لئلا يقترف المنفيون بحقه النسيان.
آمنتُ أنَ  هؤلاء، هم اكثر من يصدّق، يود ويحلم ان يعود حقاً.


وفي حديثٍ وديٍ مع مثخنٍ بالقهر ، حدثته عن ما اعتقدتُ من زيارتي لمخيمات الشتات، ما اذ كان الفلسطينيون سيحتفظون بالذكرى ويتمسكون بالأمل لو ان اوضاعهم المعيشية كانت افضل، واذ تنبهتُ بأني اسأتُ لحضرة لجوئه استدركت، "اقصد هذا ما تقوله الحكومة كذريعة للإجحاد بحقنا هنا"، قال: " نحن لسنا بحاجة الى بيوت دافئة وارصفة انيقة، وسماء تستقبل الدعاء، بل نحتاجُ ترابنا ، نحتاجُ الى وَطن".

الشوق في عيونهم لغة تخترق الحدود وتجوب جراح البلاد. حين يعرفون انكَ قادمٌ من فلسطين تقشعر ابدانهم، تخجلك لهفتهم، وحفاوة استقبالهم، يودون لو يفرشون الأرضَ لك وردا، ويهيئون لك الأفضل .. تتردد في الإجابة على سؤال من اي مدينةٍ انت، فتقول من بيت لحم، اقصد من مخيم الدهيشة. البعض لا يدري ماذا تعني كلمة مخيم في الوطن. فلا بأس ان تشرح لهم انك ايضا اقتُلعتَ من قريتك القريبة ولجأت الى مخيمٍ في مدينة مجاورة. اللجوء يُورَث كما الأرض. ترى دهشةً في عيونهم، "الاجئ انتَ في بلادك؟"  ما ان تصير نظرة حسد لك فأنتَ على الأقل في بلادك، بين ابناء وطنك، انتَ خدوش الذاكرة ، نحنُ جراحها.   


لنكن يا ايها اللجوء حالمين واهمين في هذا الوطن الغائب شحيح العطاء ضيق الأفق مكبل الحريات،

،
 علينا ان نحلم، فهذا الحلم حريص جدا على ألا نموت.
لمزيد من المعلومات:


 * تصوير بشرى فراج


هناك تعليقان (2):

  1. رائعة جداً يا عزيزتي بشرى فلقد وصفت الحال كما هو بالضبط ... مقالة رائعة ووصف دقيق لم يعيشه الفلسطينيون في لبنان فقد رأيت ذلك بأم عيني عندما زرت مخيم صبرا وشاتيلا هناك... ولكن ما أؤكد عليه بحق هو ذلك البرنامج التافه الذي يبث على تلفزيون فلسطين تحت اسم ارزة وزيتونة هذا البرنامج الذي اعتبره صهيونياً بحتاً لانه يصور فلسطينيو الشتات كأنهم لا يعرفو حتى اسم فلسطين ، فأنا أقول أنهم يعرفون أكثر بكثير مما نعرف نحن من نعيش هنا في داخل الوطن سواء كنا في مدن او مخيمات فقد أصبحنا كلنا لاجئين.
    لكي مني كل الحب والتقدير على هذا الطرح الجميل

    ردحذف
  2. صدقتِ يا رشا، جيد ان الفرصة قد اتيحت لنا لنكون هناك فعليا، لنرى الصورة بحقيقتها.

    ردحذف