Main topics

نوفمبر 25، 2013

"حتروح لكلشي إلا الستر"رحلة رضا


بؤس وتعاسة يخيمان على المسرح، رجل يساق كالحمار، يعيش من محنة لمحنة، وهو لا يعرف سبب مصائبه، ولا يفهم سر محنته. ليس غبياً بل طيب القلب يريد ان يعيش بهدوء وسلام، فمبدأه في الحياة " امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر"، ولا يدرك أن هذا المبدأ سيأخذه إلى درب الآلام والأحزان، رضا يتحمل العذاب فوق العذاب، ويبقى غائب الوعي يرفض ان يستيقظ وينظر إلى الحياة كما هي .. هكذا يجسد المخرج الفلسطيني الشاب محمد عيد مسرحية "رحلة رضا"، المقتبسة عن النص المسرحي"رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" للكاتب السوري سعد الله ونوس التي نشرت سنة 1978.
ورضا الذي جسدته شخصية الممثل الشاب "مؤيد عودة" اسم على مسمى، فهو دائما راضي، مطيع، يحب الجميع، يهرب من الواقع، ولا يريد أن يتحول إلى شخص حقير، يعمل فقط لاستغلال الجميع، ومع ذلك تدور الأحداث بعكس ما يريد، وكل خطوة يسير باتجاهها، تأخذه إلى الواقع المصنوع من الحديد، وهنا تتجسد شخصية حرفوش، والتي قام بأداها الممثل الشاب "حسام العزة" .
حرفوش وهو الوجه الاآخر، لا يحب  الشماتهة، لكنه أيضا يرفض الشفقة، فبنظره أن يكون المرء أعمى هذا شيء، لكن أن يكون له عينان سليمتان ولا يبصر بهما فهذا شيء اخر . هنا تتجسد العبثية، والسخرية والكوميديا السوداء، حيث يخلق حرفوش الشخصية التي تريد فقط أن تعيش في هذا الواقع، و هي تفهم جيداً ما معنى الواقع، فحرفوش لا يريد من رضا أن يعاني ما عاناه، وهو يرى الواقع كما هو، ليجسد شخصية شخص لا يريد أن يحقد لكنه يعرف أن الواقع الذي يعيش فيه لا يمكن أن يستمر اذا لم يتحول فيه إلى ذئب، عقل حرفوش يعيش اليقظة، مع أنه غير موجود، لكن عقل رضا يضيع في الغفلة، وهو موجود في الحاضر  .                                                                                 
فكرة المسرحية، تجعلك تعيش في داخل المسرحية، لتضيع في الكوميديا السوداء، فرضا هو المواطن العربي، الذي يحرث على ظهره، و من ثم يطحن في سجون الواقع السياسية والاجتماعية، كل الشخصيات في المسرحية تحاول أن تظهر بشكل الراعي والمساعد، الكل يريد مصلحة رضا الكل يحاول ويسعى فقط من أجل أن يساعد رضا، لكن الشر على وجهوهم الحاقدة على هذا الواقع، المكتفية، مما عاشه رضا، الواعية والتي تعيش اليقظة، وتعرف في داخلها انها اذا لم تكن هكذا فهي ستتحول لرضا، لذا تسعى فقط من أجل مصلحتها، هنا تجد الأنانية التي يعيشها المجتمع، حيث يعيش الفرد، ليحقق مصلحته، ويغذي روحه على الأنانية والحقد والغيرة، فيتنفس الهواء الملوث، بسعال الكلاب التي لا تكف عن النباح، تريد أن تقتل لتعيش  .
يجد رضا نفسه في السجن من غير تهمة، ويلقى بالسجن ستة أشهر، وتظهر هنا شخصية الشرطي التي اداها الممثل" فراس فراح"، المتعطشة للمال، تستغل الضعفاء، لتمتلك المال، فيضطر رضا إلى تسليم كل مدخراته لشرطي، حتى يخرج من السجن .
لكن الأمل يبقى في داخل رضا رغم خسارته، يذهب ليبكي في حضن زوجته، ليجد كل القذارة والحقد على الواقع والحياة قد تجسد على سرير زوجته، التي حولت بيته إلى بيت دعارة، لتجد التناقض قد تجسد على وجه زوجته، فهي لا تريد هذا الواقع، لكنها تعيشه رغماً عنها، وتعلم أن رضا لا يعرف العيش في هذا الواقع، وهي لا تريد أن تكون رضا، لذا تطرده من بيتها، وتخرجه من حياتها .
يلعب المخرج في كل المشاهد على الشخصيات الشريرة، فيعرضها بشكل طريف ومضحك، فلا تكف عن إطلاق النكات المضحة التي تتسرب إلى وجدان المتلقي، بخفة ظل واضحة، وهذه الطرافة للشخصيات الشريرة الموجودة في المسرحية، هي انعكاس للواقع الكوميدي الأسود، فهذه الشخصيات هي جزء من التشكيل العبثي للواقع، فالشر والطرافة متحدان مع بعضهما تحكم حياتنا وحياة رضا، وتطوف دائما حوله، فدائماً نقول شر البلية ما يضحك، وهنا ترى شخصية حرفوش الذي يقف على السطور، فيحرك المشاعر في الصدور، لتشعر في الضياع ينتشر في انحاء جسدك، فلا تعرف ما المضحك، لكن العبثية تأخذك إلى طريق الكوميديا السوداء، فتخونك مشاعرك وتضحك عليك، رغماً عنك، فتسمع ضحكات الجمهور قد ملأت المكان، لكن في داخلك تعرف انها مجرد ضحكة بلهاء، سبقت الدمعة التي حاولت البكاء .
فكيف يمكن أن لا تكون العبثية قد جسدت المسرحية، في ظل شخصية حرفوش ورضا، أن يسجن رضا لذنب لم يقترفه، ويذهب لزوجته التي خانته ولم تشعر بالذنب من ذلك، ومن ثم يرى انه تم فصله من عمله، والغي اسمه من السجلات،  ثم يتجه إلى الدين عله يجد الطمأنينة التي يتحدثون عنها، لكنه يجد الإستغلال والدهاء، ولا يكتفي هذا الشيخ الذي يعتبر نفسه قد جسد الدين باستغلاله، بل يطلب منه ايضا الاستسلام للواقع، وعدم مقاومة القدر وكأن المواطن العربي قد خلق لهذا القدر، اتباع الحاكم، والتسليم بأرض الواقع، دون الوقوف أو الاحتجاج، فالمواطن العربي بحاجة دائماً إلى التطهر" تطهر يا عبد الله"، كما يحتاج أن يكون مطيعاً تابع لا غير .
وقد حافظ المخرج على شخصية رضا منذ البداية، فرضا رغم كل ما حدث معه إلى أنه بسيط، هادئ ليس عصبي، وهنا خلق المخرج حالة التعاطف بين شخصية رضا والجمهور، فهو لم  يكن الشخصية الساخرة، أو الغاضبة مما يحدث، وقد بدى ذلك واضحاً من خلال المشاهد الموسيقة التي تنقلنا، من صورة إلى اخرى، وفيها نرى ردة فعل رضا على ما سبق .
كل المشاهد تترابط وتعتمد على بعضها كما في الحياة الواقعية التي نعيشها، فكل الأنظمة والمؤسسات تترابط وتدعم بعضها في محاولة السيطرة على عقل المواطن العربي، رضا ليس مجنون ولا أحمق، رضا شخص راضي، طيب لا يريد أن يؤذي أحد، يرفض أن، يتحول إلى شخص حقود،  لا يحب المشاكل" الطاقة الي بجيك منها ريح، سدها وستريح"، رضا لا يضحك في الواقع، بل يرسلك كمشاهد إلى طريق الواقع، فإذا كان رضا مضحك، إذاً فكل مواطن عربي يستحق أن نضحك عليه .
الممثل حسام العزة، مؤيد عودة
وفي كل مشهد يظهر مدى طغيان الانظمة السياسية والاجتماعية والدينية، على المواطن العربي"رضا"، ومدى استغلالها لضعفه، حتى الإعلام نفسه لم يقصر مع المواطن العربي، فهو يعمل وباستمرار على استغلال ضعفه، وتشكيل وعيه، وبناء الرأي العام بما يخدم مصلحة الأنظمة الرأسمالية وقد جسد في مشهد الطبيب الذي يقوم بسرقة اعضاء رضا، فالإعلام هو من رسم الصورة المزيفة للواقع الذي نعيشه ."مين الي بخلي المواطن يتحمل القمع والمرض والفساد، وتحمل قمع الانظمة والفساد، الطب لبسيكو إعلامي "، مين الي بخليك تصدق كمواطن ان الطب عنا عم بتطور" الطب لبسيكو اعلامي" .
شخصية رضا تستوعب انها لا يمكن أن تبقى كما هي في هذا الواقع، فهو يحاول ويحاول، ولكن يجد أن كل شيء يسير ضده، وعكسه، ويرى أن الواقع يحاول أن يستعبده، ويمنعه من الإستمرار في المضي، فيتحول رضا ليصبح مثل كل الشخصيات الأخرى التي حاولت أن، تستعبده، ويتغير مبدأه في الحياة، فكل ما يجري حوله بات يعنيه بعد ما كان يقول: " امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر"، ويقرر أن يثور على المجتمع الذي لم ير منه سوى الأسوأ، وهنا نجد أن ما يحدث الآن في الوطن العربي، هو مجرد ترجمة واقعية لرحلة رضا، فالثورات العربية التي تهب في المنطقة، هي بسبب الذل والاستبداد والقرف الذي يعيشه المواطن العربي، وقد عبر رضا  في رحلته عن كل مواطن عربي، عاش الاستبداد من الأنظمة الحكومية والاجتماعية والدينية .
رضا ختم المسرحية بكسر مبدأه في الحياة فقال:" مقولة امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر بتوديك لكلشي إلا الستر، بس عقلي الي صار معي حياتي السابقة كانت كلها خدعة بس هاي الخدعة لازم تنتهي لعند هون وبس" .

تم عرض مسرحية رحلة رضا في مختلف المدن الفلسطينية، وفي مدينة يافا في الداخل، كما وسيتم عرض هذه المسرحية في مهرجان قرطاج الدولي في تونس، وقد شارك في هذه المسرحية مجموعة من الممثلين الشباب، وكانت طاقتهم الشبابية تغذي المسرح، فهذا الشباب قد عاش الواقع بتفاصيله، ومازال يعيشه. ذا لم يكن تمثيل لهم بقدر ما كان يعبر عن عرضهم لصورة الواقع .
لم يكن حرفوش شخصية قادمة من فراغ، فحرفوش هو الشخصية التي احتاجها رضا، وسعى فقط للحصول عليها، فلو أن رضا لم يطلب من حرفوش التواجد معه وأخذه إلى حيث كان يريد أن يكون، عله يستيقظ ويغير نظرته للعالم.

رضا استطاع أن يقرر أين يريد الوصول، لكن المواطن العربي لم يستطع بعد، ليس من السهل السير على خطى رضا، فالمثل الذي يقول "إذا لم تكن ذئباً، اكلتك الذئاب" لم يأت من فراغ، فإما ان نكون كلنا رضا، أو نتحول إلى نظام شريعة الغاب، ونحن إلى هذا الطريق نسير، ليس من الصعب أن يتحول الناس ليصبحوا شخصية رضا. في شخصية رضا لن تحتاج إلى أن تتحول، ففي داخل كل شخص فينا رضا، وفي عقل كل فرد فينا ايضاً حرفوش، والشخصيتان تجتمعان لتعطيانك شخصية واضحة، فإذا غلبت شخصية الأخرى اختلت الموازين، وهذا ما يحدث في عالمنا الحاضر، فكل الطاقة التي تسيرنا الآن، تخرج من عقولنا، ومشاعرنا، وأجسادنا الباردة. فمتى يمكن أن نستوعب أن العالم يمكن أن يستمر ببساطة أكثر مما نتوقع؟













هناك 4 تعليقات:

  1. يعطيهم العافية الشباب ... والله من اجمل المسرحيات التي عرضت .. واحنا نفتقد للمسرح وبحاجة للعمل المسرحي يكبر ويزيد في البلد

    ردحذف
  2. ميس رائعة في اسلوبك ... وفنانة في رسمك للكلمات بالقلم ... شوقتني لحضور المسرحية .... يعطيهم العافية الشباب

    ردحذف
  3. رائد
    بصراحة ليست المسرحية الجميلة ...بل الكاتبة هي الجميلة التي استطاعت ان تاخذنا بقلمها الى خشبة المسرح ...
    ويعطيهم العافية الشباب

    ردحذف
  4. من احلا المسرحيات الي شوفتها لازم يعرضوها كمان مرة ... في ناس كتير ندمت انها ما اجت، ما تم الاعلان بشكل منيح عنها ...
    ميس دائما مبدعة في كلماتك صديقتي انت كلماتك بتخليني اعيش جوا المسرحية
    شكرا الك

    ردحذف